إلى جميلة بوحيرد
لا تسمعيها إنَّ أصواتنا
تخزى بها الريح التي تنقل
بابٌ علينا من دمٍ مقفل
ونحن في ظلماتنا نسأل:
من مات؟ من يبكيه؟ من يُقتل؟
من يصلب الخبز الذي نأكل؟
نخشى إذا واريت أمواتنا
أن يُفزع الأحياء ما يبصرون
إذ يُقفر الكهف الذي يأهلون
إن عربد الوحش الذي يُطعمون
من أكبُد الموتى، فمن يبذل؟
---
يا أختنا المشبوحة الباكيهْ
أطرافك الداميهْ
يقطرن في قلبي ويبكين فيهْ
يا من حملت الموت عن رافعيهْ
من ظلمة الطين التي تحتويهْ
إلى سماوات الدم الواريهْ
حيث التقى الإنسان والله، والأموات
والأحياء في شهقةٍ
في رعشةٍ للضربة القاضيهْ
الأرض، أمُّ الزهر والماء والأسماك
والحيوان والسنبل
لم تبلُ في إرهاصها الأول
من خضَّة الميلاد ما تحملين
ترتج قيعان المحيطات من أعماقها، ينسحُّ
فيها حنين
والصخر منشدٌّ بأعصابه — حتى يراها — في
انتظار الجنين
الأرض؟ أم أنت التي تصرخين؟
في صمتك المكتظِّ بالآخرين؟
في ذلك الموتُ، المخاضُ، المحبُّ،
المبغضُ، المنفتحُ، المقفلُ
ونحن؟ أم أنت التي تولدين؟
أسخى من الميلاد ما تبذلين
والموت، أقسى منه، من كل ما عاناه أجيالٌ
من الهالكين
أن الذي من دونه الجُلجُلَهْ
والسوط والسجّان والمقصلهْ
أن الذي يفديك أو تفتدين
غير الذي آذوه بالنار أو بالعار والماء
الذي تشربين
عبءٌ من الآجال ما أثقلهْ!
كم حاول الجلاد أن ينزلهْ
كم ودّ أن تلقيه إذ تعجزين
مشبوحةَ الأطراف فوق الصليبْ
مشبوحة العينين عبر الظلام
يأتيك من وهران — يا للزحام!
حشدٌ مُشِعٌّ باشتعال المغيب
يأتيك كلّ الناس، كلّ الأنام
يرجون، ممَّا تبذلين، الطعام
والأمن والنعماء والعافيهْ
وأنت مثل الدوحة العاريهْ
لم يُبق منك البغي إلا الجذور
الموت واهٍ دونها، والنشور
فيها، وتجري دونك الساقيهْ
ما شب في وهران من برعمٍ
أو أزهرت في أطلس عوسجهْ
إلا ودبت في مسيل الدم
نمنمةٌ منعشةٌ مبهجهْ
توحي بأن الأرض ظلت تدور
طاحونةً للقاتل المجرمِ
تسحق منه واهنَ الأعظُمِ
وأنّ ألوان الأذى والعذاب
ذخرٌ لنا، نجلوه يوم الحساب
نسقي به الباغين، نروي التراب
من لفحه، أن الهوى والشباب
لم يذهبا، أن البعاد اقتراب
أن من الدمع الذي تسكبين
أسلحةً في أذرع الثائرين.
جاء زمانٌ كان فيه البشر
يفدون من أبنائهم للحجر:
يا رب عَطْشَى نحن، هات المطر!
رَوِّ العطاشى منه رَوِّ الشجر
وجاء حينٌ عاد فيه البشر
يفدون بالأنعام ما تحبس السماء في أعماقها
من قدر
وجاء عصرٌ سار فيه الإلهْ
عريان، يدمى، كي يروّي الحياهْ
واليوم ولى محفل الآلههْ
اليوم يفدي ثائر بالدماء
الشيب والشبان، يفدي النساء
يفدي زروع الحقل، يفدي النماء
يفدي دموع الأيِّم الوالههْ
بالأمس دوى في ثرى يثرب
صوتٌ قويٌّ من فقيرٍ نبي
ألوى ببغي الصخر لم يضرب
وحطم التيجان أي انطلاقْ
في مصر، في سورية، في العراق
في أرضك الخضراء كان انعتاق!
بالأمس وارى قومك الآلههْ
عشتار، أم الخصب، والحب، والإحسان، تلك
الربة الوالههْ
لم تُعط ما أعطيت، لم تُرْو بالأمطار ما
رويت: قلب الفقير
لم يعرف الحقد الذي يعرفون
والحسد الآكل حتى العيون
نحن بنو الفقر الذي يزعمون
في كل عصر أنهم وارثوهْ
قابيل فينا ما تهاوى أخوهْ
من ضربة الحقد التي يضربون
يوم ابتدأنا كان عبء السماء
ملقًى على أطلس
يزحمه بالمنكب الأملس
1 ثم ارتقى إيفل، تَمَّ البناء
فانحط ذاك العبء حينًا عليه
ثم انطلقنا نحن من جانبيه
حتى حملنا عبئها، كل ما فيها من الأبراج
والأنجم
يا أختنا المشبوحة الباكيهْ
أطرافك الداميهْ
يقطرن في قلبي ويبكين فيه
لم يلق ما تلقين أنت المسيحْ
أنت التي تفدين جرح الجريحْ
أنت التي تعطين … لا قبض ريحْ
يا أختنا، يا أم أطفالنا
يا سقف أعمالنا
يا ذروةً تعلو لأبطالنا
ما حز سوط البغي في ساعديك
إلا، وفي غيبوبة الأنبياءْ
أحسست أن السوط، أن الدماءْ
أن الدجى، أن الضحايا … هباءْ
من أجل طفل ضاحكته السماءْ
فرحان في أرضه
وبعضه فرحان من بعضه
أحسسته يحبو على راحتيك
سمعته يضحك في مسمعيك
يهتف: يا جميلهْ
يا أختي النبيلهْ
يا أختي القتيلهْ
لك الغد الزاهي كما تشتهينْ
وأنت إذ أحسست، إذ تسمعينْ
تعلو بك الآلام فوق الترابْ
فوق الذرى، فوق انعقاد السحابْ
تعلين حتى محفل الآلههْ
كالربة الوالههْ
كالنسمة التائههْ
---
لا تسمعيها إن أصواتنا
تخزى بها الريح التي تنقل
بابٌ علينا، من دمٍ، مقفل
ونحن نحصي، ثَمَّ، أمواتنا
للهَ لولا أنت يا فاديهْ
ما أثمرت أغصاننا العاريهْ
أو زنبقت أشعارنا القافيهْ
إنا هنا في هوةٍ داجيهْ
ما طاف لولا مقلتاك الشعاعْ
يومًا بها نحن العراة الجياعْ
لا تسمعي ما لفقوا، ما يذاعْ
ما زينوا، ما خط ذاك اليراعْ
إنا هنا كومٌ من الأعظمِ
لم يبق فينا من مسيل الدم
شيء نروّي منه قلب الحياهْ
إنا هنا موتى، حفاة، عراهْ
لا تسمعيها، إن أصواتنا
تخزى بها الريح التي تنقل
بابٌ علينا، من دمٍ، مقفل
ونحن في ظلمائنا نسأل:
من مات؟ من يبكيه؟ من يُقتل؟
يا نفحةً من عالم الآلههْ
لا تمسحيها من شواظ الدماءْ
إنا سنمضي في طريق الفناءْ
ولترفعي أوراس حتى السماءْ
حتى تروى من مسيل الدماءْ
أعراق كل الناس، كل الصخور
حتى نمس لله
حتى نثور!
إلى جميلة بوحيرد - بدر شاكر السياب
تعليقات
إرسال تعليق